فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد (1)}
قرأ الحسن بن أبي الحسن {لأقسم} دون ألف.
وقرأ الجمهور: {لا أقسم}، واختلفوا فقال الزجاج ويغره: {لا} صلة زائدة مؤكدة، واستأنف قوله: {أقسم}، وقال مجاهد {لا} رد للكلام متقدم للكفار، ثم استأنف قوله: {أقسم}، وقال بعض المتأولين {لا} نفي للقسم بالبلد، أخبر الله تعالى أنه لا يقسم به، ولا خلاف بين المفسرين أن {البلد} المذكور هو مكة، واختلف في معنى قوله: {وأنت حل بهذا البلد} فقال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة، وعلى هذا يتركب قول من قال السورة مدنية نزلت عام الفتح، ويتركب على التأويل قول من قال: {لا} نافية أي إن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته، ويتجه أيضاً أن تكون {لا} غير نافية.
وقال بعض المتأولين: {وأنت حل بهذا البلد} معناه: حال ساكن بهذا البلد، وعلى هذا يجيء قول من قال هي مكية، والمعنى على إيجاب القسم بين وعلى نفيه أيضاً يتجه على معنى القسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء القوم وكفرهم، وذكر الثعلبي عن شرحبيل بن سعد أن معنى {وأنت حل} أي قد جعلوك حلالاً مستحل الأذى والإخراج والقتل لك لو قدروا، وإعراب {البلد} عطف بيان، وقوله تعالى: {ووالد وما ولد} قسم مستأنف على قول من قال: {لا} نافية، ومعطوف على قول من رأى {لا} غير نافية، واختلف الناس في معنى قوله: {ووالد وما ولد}، فقال مجاهد: هو آدم وجميع ولده، وقال بعض رواة التفسير: هو نوح وجميع ولده، وقال أبو عمران الجوني: هو إبراهيم وجميع ولده، وقال ابن عباس ما معناه: أن الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع الحيوان، وقال ابن عباس وابن جبير وعكرمة: {ووالد} معناه: كل من ولد وأنسل، وقوله: {وما ولد} لم يبق تحته إلا العاقر الذي ليس بوالد البتة، والقسم واقع على قوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، واختلف الناس في (الكبد) فقال جمهور الناس: {الإنسان} اسم الجنس كله، و(الكبد) المشقة والمكابدة، أي يكابد أمر الدنيا والآخرة، ومن ذلك قول لبيد: المنسرح:
يا عين هلا بكيت أربد إذ ** قمنا وقام الخصوم في كبد

وقول ذي الإصبع: البسيط:
لي ابن عم لو أن الناس في كبد ** لظل محتجراً بالنبل يرميني

وبالمشقة في أنواع أحوال الإنسان فسره الجمهور، وقال الحسن: لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح ومجاهد {في كبد} معناه: منتصف القامة واقفاً، وقال ابن زيد: {الإنسان}: آدم عليه السلام، و{في كبد} معناه: في السماء سماها كبداً، وهذان قولان قد ضعفا والقول الأول هو الصحيح، وروي أن سبب الآية وما بعدها هو أبو الأشدين رجل من قريش شديد القوة، اسمه أسيد بن كلدة الجمحي، كان يحسب أن أحداً لا يقدر عليه، ويقال بل نزلت في عمرو بن ود، ذكره النقاش، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله على بن أبي طالب خلف الخندق، وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة فقال: لقد {أهلكت مالاً} في الكفارات والنفقات مذ تبعت محمداً، وكان كل واحد منهم قد ادعى أنه أنفق مالاً كثيراً على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو في الكفارات على ما تقدم، فوقف القرآن على جهة التوبيخ للمذكور، وعلى جهة التوبيخ لاسم الجنس كله.
{فَلَا اقْتَحَمَ العقبة (11)}
في هذه الآية على عرف كلام العرب، استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهي ما صعب منه وكان صعوداً، و{اقتحم} معناه: دخلها وجاوزها بسرعة وضغط وشدة، وأما المفسرون فرأوا أن {العقبة} يراد بها جبل في جهنم، لا ينجي منه إلا هذه الأعمال ونحوها، قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: {العقبة} جهنم، قال هو وقتادة فاقتحموها بطاعة الله، وفي الحديث: «إن اقتحامها للمؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء» واختلف الناس في قوله: {فلا} فقال جمهور المتأولين: هو تحضيض بمعنى (فألا)، وقال آخرون وهو دعاء بمعنى أنه ممن يستحق أن يدعى عليه بأن لا يفعل خيراً، وقيل هي نفي، أي (فما اقتحم)، وقال أبو عبيدة والزجاج وهذا نحو قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} [القيامة: 31] فهو نفي محض كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيراً، ثم عظم الله تعالى أمر العقبة في النفوس بقوله: {وما أدراك ما العقبة}؟ ثم فسر اقتحام العقبة بقوله: {فك رقبة} وذلك أن التقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ هذا على قراءة من قرأ: {فكُّ رقبة} بالرفع على المصدر، وأما من قرأ: {فكّ} على الفعل الماضي ونصب الرقبة، فليس يحتاج أن يقدر {وما أدراك} ما اقتحام، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء {فكّ} بدلاً من {اقتحم} ومبيناً.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة {فك رقبة أو إطعام} وقرأ أبو عمرو {فك رقبة} بالنصب {أو أطعم}.
وقرأ بعض التابعين {فكِّ رقبة} بالخفض.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أيضاً والكسائي {فكِّ رقبة} بالنصب {أو إطعام}. وترتيب هذه القراءات ووجوهها بينة، وفك الرقبة معناه: بالعتق من ربقة الأسر أو الرق، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار».
وقال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل أنجو به، فقال: «لئن قصرت القول لقد عرضت المسألة فك رقبة، وأعتق النسمة»، فقال الأعرابي: أليس هما واحدًا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها».
قال القاضي أبو محمد: وكذلك فك الأسير إن شاء الله، وفداؤه أن ينفرد الفادي به، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «وأبق على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق هذا كله، فكف لسانك إلا من خير».
و(المسبغة) المجاعة.
والساغب الجائع.
وقرأ جمهور الناس {ذي مسغبة} على نعت {يوم} وقرأ على بن أبي طالب والحسن وأبو رجاء {ذا مسغبة} على ان يعمل فيها {أطعم} أو {إطعام} على القراءتين المذكورتين وفي هذا حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لأن التقدير انسانا ذا مسغبة ووصفت الصفة لما قامت مقام موصوفها المحذوف وأشبهت الأسماء و(المسغبة) الجوع العام وقد يقال في الخاص سغب الرجل إذا جاع البلد: (15) يتيما ذا مقربة وقوله تعالى: {ذا مقربة} معناه ذا مقربة لتجتمع الصدقة والصلة وهذا نحو ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب امراة عبد الله بن مسعود «تصدقي على زوجك فهي صدقة لك وصلة» و{أو} في قوله: {أو مسكينا ذا متربة} فيها معنى الاباحة ومعنى التخيير لأن الكلام يتضمن معنى الحض والأمر فيها أيضا معنى التفضيل المجرد لأن الكلام يجري مجرى الخبر الذي لا تكون {أو} فيه الا منفصلة واما معنى الشك أو الإبهام فلا مدخل لها في هذه الآية والإبهام نحو قوله تعالى: {وإنا أو إياكم} سبأ 24.
وقول أبي الأسود:
أحب محمدا حبا شديدا ** وعباسا وحمزة أوعليا

و{ذا متربة} معناه مذقعا قد لصق بالتراب وهذا مما ينحو الى ان المسكين أشد فاقة من الفقير قال سفيان هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب لا بيوت لهم.
وقال ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه الى بيته مستيقنا انه ليس فيه الا التراب وقوله تعالى: {ثم كان} معطوف على قوله: {اقتحم} وتوجه فيه معاني {فلا اقتحم} المذكورة من النفي والتحضيض والدعاء ورجح أبو عمرو بن العلاء قراءته {فك} بقوله: {ثم كان} ومعنى قوله: {ثم كان} أي كان وقت اقتحامه العقبة {من الذين آمنوا} وليس المعنى انه يقتحم ثم يكون بعد ذلك لأن الاقتحام كان يقع من غير مؤمن وذلك غير نافع.
وقوله تعالى: {وتواصوا بالصبر} معناه على طاعة الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي.
و{بالمرحمة} قال ابن عباس كل ما يؤدي الى رحمة الله تعالى.
وقال آخرون هو التراحم وعطف بعض من الناس على بعض وفي ذلك قوام الناس ولو لم يتراحموا جملة هلكوا و{الميمنة} مفعلة وهي فيما روي عن يمين العرش وهو موضع الجنة ومكان المرحومين من الناس و{المشأمة} الجانب الأشأم وهو الأيسر وفيه جهنم وهو طريق المعذبين يؤخذ بهم ذات الشمال وهذا ماخوذ من اليمن والشام للواقف بباب الكعبة متوجها الى مطلع الشمس واليد الشؤمى هي اليسرى وذهب الزجاج وقوم الى ذلك من اليمن والشؤم.
وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم {موصدة} على وزن موعدة وكذلك في سورة الهمزة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم {مؤصدة} بهمز الواو في السورتين ومعناهما جميعا مطبقة معلقة يقال أوصدت وآصدت بمعنى أطبقت وأغلقت فهي (موصدة) دون همز من أوصدت وقد يحتمل ان يهمز من يراها من اوصدت من حيث قبل الواو حرف مضموم على لغة من قرأ بالسوق ومنه قول الشاعر جرير:
أحب المؤقدان إلى مؤسى

بالهمز فيهما و{مؤصدة} من آصدت ويحتمل ان تسهل الهمزة فتجيء موصدة من أصدت ومن اللفظة الوصيد.
وقال الشاعر الأعشى:
قوما يعالج قملا أبناؤهم ** وسلاسلا حلقا وبابا موصدا

.اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد}
أقسمَ سبحانَهُ بالبلد الحرامِ وبَما عُطفَ عليهِ عَلى أنَّ الإنسانَ خُلقَ ممنوَّاً بمقاساةِ الشدائدِ ومعاناةِ المشاقِّ واعترضَ بينَ القسمِ وجوابِه بقوله تعالَى: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد} إمَّا لتشريفهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بجعلِ حلولِه بهِ مناطاً لإعظامِه بالإقسامِ بهِ أو التنبيهِ منْ أولِ الأمرِ عَلى تحققِ مضمونِ الجوابِ بذكرِ بعضِ موادِّ المكابدةِ على نهجِ براعةِ الاستهلالِ وبيانِ أنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ معَ جلالةِ قدرةِ وعظمِ حُرمتِه قد استحلُّوه في هَذا البلد الحرامِ وتعرضُوا لَهُ بما لاَ خيرَ فيهِ وهمُّوا بما لَمْ ينالُوا عن شُرَحْبيلَ يحرمونَ أن يقتلُوا بَها صيداً ويعضدُوا بَها شجرةً ويستحلُّونَ إخراجَكَ وقتلكَ أو لتسليتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالوعدِ بفتحِه عَلى مَعْنى وأنتَ حلٌّ بهِ في المستقبلِ كَما في قوله تعالَى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} تصنعُ فيهِ ما تريدُ من القتلِ والأسرِ وقد كانَ كذلكَ حيثُ أحلَّ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ مكةَ وفتحَها عليهِ وما فتحتْ عَلى أحد قَبْله ولاَ أحلتْ لهُ فأحلَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فيهَا ما شاءَ وحرَّم ما شاءَ قتلَ ابْنَ خطلٍ وهو متعلقٌ بأستارِ الكعبةِ ومقيسَ بْنَ ضبابةَ وغيرَهُما وحرَّمَ دارَ أبي سفيانَ ثمَّ قالَ: «إنَّ الله حرَّمَ مكةَ يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ فهَى حرامٌ إلى أنْ تقومَ الساعةُ لم تحلَّ لأحد قَبْلي ولنْ تحلَّ لأحد بعدي ولم تحلَّ لي إلا ساعةً من نهارٍ فَلا يُعضدُ شجرُهَا ولا يُختلى خَلاها ولا ينفرُ صيدُهَا ولا تحلُّ لُقطتُها إلا لمنشدٍ» فقالَ العباسُ: يا رسولَ الله إلا الإِذْخِرَ؛ فإنَّه لقيونِنا وقبورِنا وبيوتِنا؟ فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ: «إلاَّ الإذخرَ» {وَوَالِدٍ} عطفٌ على هَذا البلد والمرادُ بهِ إبراهيمُ وبقوله تعالى: {وَمَا ولد} إسماعيلُ والنبيُّ صلواتُ الله عليهمْ أجمعينَ حسبَما ينبئُ عنْهُ المعطوفُ عليهِ فإنُه حرمُ إبراهيمَ ومنشأُ إسماعيلَ ومسقطُ رأسِ رسولِ الله عليهمُ الصلاةُ والسلامُ والتعبيرُ عنهمَا بَما دُونَ مَنْ للتفخيمِ والتعظيمِ كتنكيرِ والدٍ، وإيرادُهم بعنوانِ الولادِ ترشيحٌ لمضمونِ الجوابِ وإيماءٌ إلى أنَّه متحققٌ في حَالتِي الوالديةِ والولديةِ وقيلَ: آدمُ عليهِ السلامُ ونسلُه وهُو أنسبُ لمضمونِ الجوابِ من حيثُ شمولُه للكُلِّ إلا أنَّ التفخيمَ المستفادَ من كلمةِ مَا لابد فيهِ من اعتبارِ التغليبِ وقيلَ: وكُلُّ والدٍ وولدهُ.
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في كبد} أي تعبٌ ومشقةٌ فإنَّه لا يزالُ يُقاسِي فنونَ الشدائدِ منْ وقتِ نفخِ الروحِ إِلى حينِ نَزْعِها وما وراءَهُ يقالُ كبد الرجلُ كَذا إذَا وجعتْ كبده وأصلُه كبدهُ إذَا أصابَ كبدهُ ثم اتْسعَ فيهِ حَتَّى استعملَ في كُلِّ نصبٍ ومشقةٍ، ومنهُ اشتقتْ المكابدةُ كما قيلَ: كبتَهُ بمعنى أهلَكُه وهو تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم مما كانَ يكابدُه من كفارِ قريشٍ والضميرُ في قوله تعالَى: {أيحسب} لبعضِهم الذي كانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يكابدُ منهمْ مايكابدُ كالوليدِ بنِ المغيرةِ وأضرابِه وقيلَ: هُوَ أبُو الأشدِّ بنُ كَلَدةٍ الجُمَحيُّ وكان شديدَ القوةِ مغتراً بقوتِه وكان يبسطُ له الأديمُ العكاظيُّ فيقومُ عليهِ ويقول منْ أزالَني عنْهُ فلَهُ كَذا فيجذبُهُ عشرةٌ فينقطعُ قطعاً ولا تزلُّ قدماهُ أيْ أيظنُّ هَذا القويُّ الماردُ المتضعفُ للمؤمنينَ {أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أحد} أنْ مخففةٌ منْ أنَّ واسمُهَا الذي هُو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ أيْ أيحسب أنَّه لنْ يقدرَ عَلى الانتقامِ منهُ أحد {يَقول أَهْلَكْتُ مَالاً لبدا} يريدُ كثرةَ ما أنفقَهُ فيَما كانَ أهلُ الجاهليةِ يسمونَها مكارمَ ويدعونَها معاليَ ومفاخرَ {أيحسب أَن لَّمْ يَرَهُ أحد} حينَ كانَ ينفقُ وأنه تعالَى لا يسألُه عنْهُ ولا يجازيِه عليهِ {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عينين} يبصرُ بهمَا {وَلِسَاناً} يترجمُ بهِ عنْ ضمائرِه {وشفتين} يسترُ بهمَا فاهُ ويستعينُ بهَما على النطقِ والأكلِ والشربِ وغيرِها {وهديناه النجدين} أيْ طَريقي الخيرِ والشرِّ أو الثديينِ وأصلُ النجدِ المكانُ المرتفعُ {فَلاَ اقتحم العقبة} أيْ فَلمْ يشكرْ تلكَ النعمَ الجليلةَ بالأعمالِ الصالحةِ وعبرَ عنْهَا بـ: {العقبة} التي هيَ الطريقُ في الجبل لصعوبة سلوكِها.
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة} أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما اقتحامُ العقبة لزيادةِ تقريرِها وكونِها عندَ الله تعالَى بمكانةٍ رفيعةٍ {فَكُّ رقبة} أيْ هُو إعتاقُ رقبة {أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مسغبة} أيْ مجاعةٌ {يَتِيماً ذَا مقربة} أيْ قرابة {أَوْ مِسْكِيناً ذَا متربة} أي افتقارٌ وحيثُ كانَ المرادُ باقتحامِ العقبة هذهِ الأمورَ حسُنَ دخولُ لاَ عَلى الماضِي فإنَّها لا تكادُ تقعُ إلا مكررةً إذِ المَعْنى فلا فكَّ رقبة ولا أطعَم يتيماً أو مسكيناً والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلاتٌ من سغِبَ إذا جاعَ وقرُبَ منْ النسبِ وترِبَ إذا افتقرَ وقُرِئ {فكَّ رقبة أوْ أطعمَ} على الإبدالِ من اقتحمَ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} عطفٌ عَلى المنفيِّ بَلا وثمَّ للدلالة عَلى تراخي رتبة الإيمانِ ورفعةِ محلِّه لاشتراط جميعِ الأعمالِ الصالحةِ بهِ {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} عطفٌ على {آمنُوا} أيْ أوصَى بعضُهم بعضاً بالصبر على طاعة الله {وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة} بالرحمةِ عَلى عبادهِ أو بموجباتِ رحمتِه من الخيراتِ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصولِ باعتبار اتصافِه بَما في حيز صلتِه، وما فيهِ من مَعْنى البعد معَ قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ ببعدِ درجتِهم في الشرفِ والفضلِ أيْ أولئكَ الموصوفونَ بالنعوتِ الجليلةِ المذكورةِ {أصحاب الميمنة} أي اليمينُ أو اليمنُ {والذين كَفَرُواْ بآياتنا} بما نصبنَاهُ دليلاً على الحقِّ من كتابٍ وحجة أو بالقرآن {هُمْ أصحاب المشئمة} أي الشمالِ أو الشؤمِ {عَلَيْهِمْ نَارٌ مؤصدة} مطبقةٌ من آصدتُ البابَ إذا أطبقتهُ وأغلقتَهُ وقُرئ {مُوصدةٌ} بغيرِ همزةٍ منْ أوصدتُهُ. اهـ.